إبراهيم عيسي يمثل في مصر ظاهرة صحفية وأدبية مثيرة، فقد أصبح رئيس تحرير أهم صحيفة معارضة الدستور وهو في الثلاثينيات من عمره، واخترق مجال الرواية منذ كان في العشرينيات برواية 'العراة' التي اعتبرها الأزهر عملا فاضحا وأشار بمصادرتها عام 1992، ثم استمر في شغبه الصحفي والأدبي في كتابات مدهشة، يمتزج فيها التحقيق الساخن بالخيال الجموح، ليخوض معارك سياسية وثقافية مدوية، خلفت عددا من الكتب والأعمال السردية، وقد أصدر مؤخرا روايته السابعة 'أشباح وطنية' يتحدي بها مفاهيم النقد السائدة، ويصدم ذائقة القراء بلون جديد يحارون في تصنيفه وتقييمه، لأنه يعتمد علي تراكم المعلومات عن أسرار السياسة وفضائح المجتمع وفساد الطبقة الحاكمة فيه، لكنه يغلف ذلك بإطار من الفانتازيا العبثية، مستعينا بالخيال الشعبي عن مشاهد القيامة وعذاب القبر وقصص الأشباح والأرواح، بحيث تتناوب في الرواية، وهي محكية بضمير الغائب المحيط بكل شيء علما، استرجاعات شخوصها، وهم مجموعة من الشباب والفتيات يمثلون هذه الطبقة العاتية، مع أحداث رحلة كابوسية مرعبة إلي إحدي قري الساحل الشمالي، دون أن تخضع عملية التضفير السردي.. بين المستويين لمقتضيات الاحكام الفني والضرورة الجمالية، مما يترك لدي القاريء شعورا بفائض المعلومات التي لم تستدعها ذاكرة الشخوص وانما امتلأت بها سجلاتهم من منظور محايد ان لم يكن معاديا لهم، مما يجعلها مجرد استطرادات سردية خارجة عن السياق الداخلي، تتبادل الظهور مع أخيلة عبثية، تستخدم فكرة العفاريت الشعبية لتنتقم بها من جرائم أبناء الطبقة المتسلطة، بأكثر مما كان يحرص عليه الأدب الهادف الملتزم من نزعات أخلاقية في أشد مراحل انتصار الأيديولوجيات مباشرة، ومهما كان هذا الهدف نبيلا فإن الطريق إلي تحقيقه يتطلب الإفادة من تجارب الأجيال المتعاقبة في الابداع والنقد علي السواء.
بذرة الفانتازيا
تشتعل جذوة الفانتازيا في الرواية منذ بداية الرحلة التي يتجمع فيها ثلة من أبناء الطواغيت الكبار لقضاء عطلتهم في احدي القري السياحية التي تغص بالقصور، احتفالا ببراءة أحدهم عن طريق الرشوة من إثم سحق أسرة صغيرة تحت عجلات سيارته 'الجيب شيروكي'، وقد خرجت المجموعة في سيارتين من النوع ذاته، قادت الأولي 'عزة' وهي مذيعة تليفزيونية ضالعة، سلكت طريق العلمين الجديد الخالي من الحركة، لكنها ما لبثت أن 'ضغطت بعنف علي فرامل السيارة حتي فزع الجميع من صوت الاحتكاك الهادر للعجلات علي الأسفلت، وترنٌحت السيارة يمينا ثم لفت نصف دورة إلي اليسار وسط صراخ مشروخ من غادة، وزعيق مجنون من تامر الذي اصطدم رأسه في سقف السيارة، بينما ارتمت زجاجات بيرة وعلب طعام علي الأرض مبعثرة ومفتتة، أغرقت ولوثت الملابس والمقاعد، بينما كان صوت عزة مثل صوت قطع جوافة انحشرت في موتور خلاط غليظ وعميق وعريض، ورعشة محمومة تسطو علي مقاليد جسمها كلية، فخرجت الحروف تدفع بعضها وتضرب حرفا بحرف، فتاهت الجملة التي قالتها اضطرابا وارتجافا..
أشباح، ناس لابسة أسود، جلاليب سوداء وعبايات فوقها تحزم رأسها بشال أخضر، ملفوف زي الصعايدة،.. تطير أمام السيارة، تصعد علي مقدمتها، وترقص وتنقر الزجاج كأنها مناقير غربان سوداء كالحة'.
كان زملاؤها يعرفون أنها مصابة بحالة مرضية، حيث تتراءي لها أخيلة موهومة، فانبري أحدهم وهو تامر كي يقود السيارة بدلا منها، متهما إياها بأن نوبة الضلالات والأوهام قد عاودتها، لكنه لم يلبث أن رأي بدوره الأشباح ذاتها وهي ترقص وتضرب سطح السيارة، ثم ارتفعت عجلات السيارة كأن يدا تمسك بها من مؤخرتها، وتساقط الجميع علي زجاجها الأمامي ليتهشم منفجرا مفتتا، اختفي الأسفلت من تحتهم وتعلقت السيارة في الهواء ثم انهارت إلي رمل كاسر علي جانب الطريق'. ولولا أن أدركتهم السيارة الثانية لتنقذهم وتمضي بهم جميعا إلي الرحلة لما استكملوا طريقهم الذي سيحفل بالعجائب التي كانت 'ضلالات عزة' كما يطلقون عليها هي البذرة الأولي لها قبل أن تصبغ رؤية الجميع.
المعلومات الصلبة
لابد لي أن أبدي إعجابي بالصورة الحية الطازجة التي بثها الكاتب في الفقرة السابقة، عندما شبه حشرجة صوت عزة 'بصوت قطع جوافة انحشرت في موتور خلاط غليظ وعميق وعريض' لكني أستميحه عذرا في استخدام التشبيه ذاته لمجموعة الحكايات والقصص والاسترجاعات التي تعج بها الرواية عن أبناء الطبقة الجديدة من أبطال الرحلة ومن يضعه سوء الحظ في طريقهم 'إذ لم يعد أحد منهم طفلا أو مراهقا من زملاء النادي أو الجامعة، كانوا يلتقون في مآدب واحتفالات أهلهم في الأعياد والمناسبات المعدة خصيصا للتصوير في الصحف، حتي يبدو تكاتف الأغنياء وتحالف أصحاب النفوذ من السياسة إلي الاقتصاد ورجال المال' لكن لكل من جلال ووائل وتامر وكريم وصبري وغادة وسارة وعزة صحيفة سوابقه السوداء التي يوزعها الكاتب علي هواه علي مشاهد الرحلة بمبادرة منه في استرجاعات لاتعتمد علي تداعيات ذواكرهم ولاتنجح في تشخيص دواخلهم، بل تمثل قطعا للسياق وانتقالا مفاجئا للماضي، وتضخما مثيرا بالمعلومات الصلبة التي لايقوي موتور الرواية علي تذويبها في رحيق متجانس حلو أو حامض.
ويكفي أن أشير فحسب إلي عدد من هذه القصص والحكايات الجنينية المختزلة، وإشاراتها إلي وقائع متداولة في الحياة الثقافية والصحفية المصرية تكفي أية واحدة منها لتشكيل فضاء روائي فسيح مفعم بالدلالات، لكن تكدسها يحرمها من السيولة والتدفق، مثل قصة جلال ابن امبراطور الصحافة وإدمانه للشم، وصبري ابن المكوجي وإتقانه للطبخ وغواية سيدات المجتمع الذي يزعم الرقي، ووائل نجل ترزي القوانين العتيق الذي سحق الأسرة عمدا بسيارته وأجبر أبوه أهل القتلي علي قبول الدية وتسوية القضية، وكريم وقصة التوكيلات التجارية وعلاء زعيم الشواذ مع أنه نجل اللواء الكفراوي بطل الحرب سابقا، وأسرار الصحافة ونادي طائرة الرئاسة، والصعود الطبقي عبر شارع الشواربي وتهريب البضائع، وقصة رئيس تحرير الصحيفة القومية الكبري الذي كان مندوبا في المطار، وقصة محمود داود الدبلوماسي المهرب للماس واللاجيء الأفريقي وشبكة علاقاته، وابن المستشار الذي انتحر عندما أطلعه زملاؤه علي شريط فيديو لمساومات السيدة والدته علي شرفها وشرف زوجها، وقصة الراقصة الروسية التي عيرتهم بحبها لمصر أكثر منهم فتركوها تغرق بجوار اليخت دون أن ينقذوها إلي غير ذلك من عشرات الحكايات عن خفايا السياسة والصحافة ودنيا الأعمال، وهذا كله كنز من المعلومات الحقيقية التي لايشك القاريء في أن نسبة عالية منها صحيحة وموثقة، لكنها لم ترق في جملتها لتصبح متخيٌلة محتملة تمثل الواقع فنيا لاصحفيا. وهنا تكمن مشكلة الرواية الحقيقية، فلا يكفي أن تكون الأحداث منتزعة من صلب الحياة وملخصة لمجريات وقائعها، بل لابد لها من الصبغة الفنية التي تتمثل في التوزيع المتوازن علي المواقف، والبوح الحميم بخطوات الضمير، والضرورة النابعة من التصميم الداخلي العضوي للعمل الفني، مما يشع بضوء الفن علي المواقف، ويجسد روح الشخوص كي يصبح حينئذ أبلغ من التاريخ وأشد نفاذا إلي جوهر الحياة ومعناها الحقيقي. الأشباح الوطنية وتفسيرها:
تحفل الرواية الصادرة عن دار ميريت إلي جانب ذلك بمشاهد الرعب التي تتولاها العفاريت والأشباح لتعذيب هذه المجموعة، في ليلة متطاولة منذ وصولهم إلي القرية الخاوية حتي العثور علي جثثهم في اليوم التالي، وتقديم وكيل النيابة المختص لتقرير مفصل عن إصاباتهم وتشوهاتهم واستغاثاتهم، بعد معاينته للمواقع، واطلاعه علي صور الكاميرات المثبتة في شوارع القرية المهجورة في الشتاء، وسماعه لتسجيلات تليفوناتهم المحمولة بالصوت والصورة والمدهش الذي يمثل مفاجأة الرواية الختامية أن هذه الأشباح لاتظهر في الصور، وان كان صوت بعضها يرن في أعماق وكيل النيابة منبعثا من أحد التسجيلات، فالعفاريت لاعبت هؤلاء الشباب بقسوة غليظة دامية، فلسطت عليهم أدوات التعذيب والترويع في حرب غير متكافئة، حيث أخذت الصنابير تتفجر بالمياه وتخرج منها أسماك صغيرة تتسرب إلي أجسادهم وتنفخ بطونهم، كما أغرت بهم الأمواج في الشاطيء لتعابثهم وتنقض عليهم مثل 'السونامي' الذي لايدع شيئا أمامه قبل أن تنحسر عنهم أحياء، وكيف أخذت هذه الأشباح تقذف بأحدهم لتعلقه مشبوحا في إعلان أحد المحلات التي كان أول من افتتح فرعا لها في مصر، ثم تجسدت لهم العفاريت في أفواج هائلة من الثعابين وأدخلتهم في ممرات مظلمة بعد أن طمست أبوابها وأخذت تمشي علي رؤوسهم كأنها خلية نحل وتحتل عيونهم لتخرج من أنوفهم وآذانهم دون أن تلدغهم، ثم تنهال عليهم كرات الدخان والنار وأفواج الخراتيت فاذا ما صدرت عن بعضهم استغاثة مكروبة أجابتهم مجموعة أخري من أرواح قضاة قتلوا في حادثة سير لأنهم تجاسروا علي مخالفة الحكومة في قضاياها في مشاهد تزيد من رعبهم وعذابهم الذي لايتعين بخيالات 'ألف ليلة' بل بقصص الثعبان الأقرع وعذاب القبر ثم تطلب منهم أرواح القضاة أن يعتذروا ويتأسفوا علي ما ارتكبوا في حق المجتمع من آثام، أي أن هذه الأشباح في جملتها تمثل فيما يبدو صوت الوطن وضميره الذي ينتقم منهم بهذا الشكل العجائبي المثير.
لكن التفسير الذي يشرح كل ذلك يتولاه وكيل النيابة في عرضه للوقائع بعد إعادة بنائها أمام وزير العدل وآبائهم الكبار حيث يقول: 'لقد تعاطت الشلة قبل ساعات من وصولها للطريق السريع عقارات هلوسة متطورة، مما جعلهم يتصورون وقائع وأحداث ومشاهد متخيلة تماما، لقد قتلوا أنفسهم بالخوف والفزع من أشباح رأوها نتيجة هذه العقاقير في نوبة جنون مشترك' واذا كانت هذه النهاية البوليسية تشبع الحسٌ الأخلاقي للكاتب في فضح جرائم الواقع وتخيٌل عقوباتها بهذه الطريقة فإنها تطرح أسئلة نقدية وجمالية عن دور الفانتازيا في الأدب، ومدي ما تتيحه من تخليق نماذج بشرية متطورة، وعن شروط توظيف المعلومات الصحفية في صياغة أنساق سردية متماسكة تضمن شروط التلقي الجمالية التي تحققها الأعمال الابداعية